الخميس، 17 مايو 2012

نفخ الروح في الجنين وتفسيره

بسم الله الرحمن الرحيم الحديث الأول رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، وفيه : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يُرسل الْمَلَك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بِكَتْب رِزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد . الحديث . والحديث الثاني رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول : إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ، ثم يَتَسَوَّر عليها الملك ، فيقول : يا رب أذكر أو أنثى ؟ فيجعله الله ذكرا أو أنثى ، ثم يقول : يا رب أسويٌّ أو غيرُ سويّ ؟ ، فيجعله الله سويا أو غير َسويّ ، ثم يقول : يا رب ما رزقه ؟ ما أجله ؟ ما خلقه ؟ ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا . وفي رواية له : أن ملكا مُوكّلا بالرَّحِم . وفي رواية له : ثم يتسوّر عليها الملك - قال زهير : حسبته قال - : الذي يخلقها . ولا تعارُض بين الحديثين ، فالحديث الأول ذُكِر فيه نَفْخ الروح بعد ( 120 ) يوما ، وهي أربعة أشهر ، والحديث الثاني ليس فيه ذِكر لِنفخ الروح . والعلماء مُتَّفِقُون على أن نَفْخ الروح لا يكون إلاّ بعد مُضيّ أربعة أشهر ، وإن كانوا اختلفوا هل يكون في أول الأربعين الرابعة من استقرار النطفة ، أو يكون بعد نهاية الأربعين الرابعة ؟ قال القرطبي في تفسيره عن حديث ابن مسعود : فهذا الحديث مُفَسِّر للأحاديث الأُوَل ، فإن فيه : " يُجْمَع خَلْق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم أربعين يوما علقة ، ثم أربعين يوما مضغة ، ثم يُبعث الملك فينفخ فيه الروح " ، فهذه أربعة أشهر ، وفي العشر يَنفخ الْمَلَك الروح ، وهذه عِدّة المتوفَّى عنها زوجها ، كما قال ابن عباس . اهـ . وقال ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " عن حديث ابن مسعود : فهذا الحديث يدلُّ على أنَّه يَتَقَلّب في مئة وعشرين يوما ، في ثلاثة أطوار ، في كلّ أربعين منها يكون في طَوْرٍ ، فيكون في الأربعين الأولى نطفةً ، ثم في الأربعين الثانية علقةً ، ثم في الأربعين الثالثة مضغةً ، ثم بعد المائة وعشرين يوما يَنْفُخ المَلَكُ فيهِ الرُّوحَ ، ويَكتب له هذه الأربع كلمات . اهـ . وحديث حُذيفة بن أسيد رضي الله عنه فيه الْخَبَر عن الْمَلَك الذي وُكِّل بِخَلْق النطفة ، ونقلها من مرحلة إلى مرحلة ، ومِن طور إلى طور . قال النووي : قَالَ الْعُلَمَاء : طَرِيق الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات ؛ أَنَّ لِلْمَلَكِ مُلازَمَة وَمُرَاعَاة لِحَالِ النُّطْفَة ، وَأَنَّهُ يَقُول : يَا رَبّ هَذِهِ عَلَقَة ، هَذِهِ مُضْغَة ، فِي أَوْقَاتهَا . فَكُلّ وَقْت يَقُول فِيهِ مَا صَارَتْ إِلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى ، وَهُوَ أَعْلَم سُبْحَانه ، وَلِكَلامِ الْمَلَك وَتَصَرُّفه أَوْقَات : أَحَدهَا : حِين يَخْلُقهَا اللَّه تَعَالَى نُطْفَة ، ثُمَّ يَنْقُلهَا عَلَقَة ، وَهُوَ أَوَّل عِلْم الْمَلَك بِأَنَّهُ وَلَد ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ كُلّ نُطْفَة تَصِير وَلَدًا ، وَذَلِكَ عَقِب الأَرْبَعِينَ الأُولَى ، وَحِينَئِذٍ يَكْتُب رِزْقه وَأَجَله وَعَمَله وَشَقَاوَته أَوْ سَعَادَته ، ثُمَّ لِلْمَلَكِ فِيهِ تَصَرُّف آخَر فِي وَقْت آخَر ، وَهُوَ تَصْوِيره وَخَلْق سَمْعه وَبَصَره وَجِلْده وَعَظْمه ، وَكَوْنه ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُون فِي الأَرْبَعِينَ الثَّالِثَة ، وَهِيَ مُدَّة الْمُضْغَة ، وَقَبْل اِنْقِضَاء هَذِهِ الأَرْبَعِينَ ، وَقَبْل نَفْخ الرُّوح فِيهِ ؛ لأَنَّ نَفْخ الرُّوح لا يَكُون إِلاَّ بَعْد تَمَام صُورَته . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ نَفْخ الرُّوح لا يَكُون إِلا بَعْد أَرْبَعَة أَشْهُر . اهـ . وقال ابن القيم : ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يَقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم ، وحديث أنس غير مؤقّت ، وأما حديث حذيفة بن أسيد فقد وُقَّت فيه التقدير بأربعين يوما ، وفي لفظ : بأربعين ليلة ، وفي لفظ : ثنتين وأربعين ليلة ، وفي لفظ : بثلاث وأربعين ليلة ، وهو حديث تفرد به مسلم ولم يروه البخاري ، وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين ، ولا تعارض بينهما بحمد الله ، وأن الْمَلَك الْمُوَكَّل بالنطفة يَكتب ما يُقَدِّره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى ، حتى يأخذ في الطور الثاني ، وهو العلقة ، وأما الملك الذي ينفخ فيه فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة ، فيؤمر عند نَفْخ الروح فيه بكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ، وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكَّل بالنطفة ولهذا قال في حديث ابن مسعود : "ثم يُرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات " ، وأما الملك الموكَّل بالنطفة ، فَذاك رَاتِب مَعها يَنْقُلها بإذن الله من حال إلى حال ، فَيُقَدِّر الله سبحانه شأن النطفة حتى تأخذ في مبدأ التخليق ، وهو العَلَق ، ويُقَدِّر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما ، فهو تقدير بعد تقدير ، فاتَّفَقَت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَدَّق بعضها بعضا . اهـ . وتصوير الجنين وتخليقه شيء ، ونَفْخ الروح فيه شيء آخر ، فالتَّخْلِيق مُتقدِّم على نفخ الروح . قال ابن حجر : وَقَدْ نَقَلَ الْفَاضِل عَلِيّ بْن الْمُهَذَّب الْحَمَوِيّ الطَّبِيب اِتِّفَاق الأَطِبَّاء عَلَى أَنَّ خَلْق الْجَنِين فِي الرَّحِم يَكُون فِي نَحْو الأَرْبَعِينَ ، وَفِيهَا تَتَمَيَّزُ أَعْضَاء الذَّكَر دُون الأُنْثَى لِحَرَارَةِ مِزَاجِهِ وَقُوَاهُ وَأَعْبَد إِلَى قِوَام الْمَنِيّ الَّذِي تَتَكَوَّن أَعْضَاؤُهُ مِنْهُ وَنُضْجه ؛ فَيَكُون أَقْبَلَ لِلشَّكْلِ وَالتَّصْوِير . اهـ . ووجود النبض أو الحركة لا يعني نَفْخ الروح في الجنين ؛ لأن تعلّق الروح بالجنين في هذه المرحلة تعلّق من نوع خاص ، كما ذَكَر ابن القيم ، هذا من جهة . ومن جهة ثانية فإن الحركة منها ما هي حركة طبيعية ، مثل حركة المعدة عند هضم الطعام . ولتقريب الصورة فإن النائم تخرج روحه خروجًا دون الخروج الْكُلِّي ، وهو مع ذلك يتنفّس ويتحرّك . قال تعالى : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) . وقال عليه الصلاة والسلام : النَّوم أخُو الْمَوت . رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشُّعَب . وقال الهيثمي في المجمَع : رواه الطبراني في الأوسط والبزار ، ورجال البزار رجال الصحيح . وصححه الألباني . قال ابن عبد البر : ذَكَر أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان أن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد - صاحب مالك - قال : النفس جَسد مُجَسَّد كَخَلْق الإنسان ، والروح كالماء الجاري ، قال : واحتج بقول الله عز وجل : (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) . وقال : ألا ترى أن النائم قد توفَّى الله نفسه وروحٌ صاعد ونازل ، وأنفاسه قيام ، والنفس تَسرح في كل وادٍ ، وترى ما تراه من الرؤيا ، فإذا أذِن الله في رَدّها إلى الجسد عادت واستيقظ بعودتها جميع أعضاء الجسد والبصر وغيرهما من الأعضاء . اهـ . فكذلك الجنين قبل نفخ الروح فيه ، يجوز أن يكون له حركة وله نبض ، من غير أن تُنفخ فيه الروح . ولا يُؤخذ بِكلام بعض الأطباء وإهدار كلام علماء الأمة ، وفهمهم لِحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي جاء فيه نفخ الروح بعد مائة وعشرين يوما .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق