الأربعاء، 4 مايو 2011

قصة بطل


ما إن توقف الباص حتى التقطت حقيبتي الصغيرة بسرعة البرق وقفزت إلى داخله كأنني أخاف أن ينطلق من جديد دون أن أرحل معه. أو أنني ضقت ذرعاً بالمدينة وأهلها إلى حدٍّ أنني لم أعد أرغب بالمكوث ثوانٍ أخر.
جلست في المقعد الثالث من الطرف الأيسر للباص إلى جوار النافذة. أخرجت علبة سجائري وعلبة الثقاب ووضعتهما إلى جانبي. خلعت سترتي وعلقتها إلى خطَّاف مثبت في جدار الباص لهذا السبب ثمَّ أخذت وضع من سيطول سفره، فتفرست في وجوه المسافرين الآخرين وجهاً وجهاً ثمَّ.. انطلق الباص يهدر بصوت مشؤوم ينفث روائح النفط إلى الداخل.
سار الباص في الشوارع ثمَّ توقف على إشارة مرور منسية منذ الليلة الماضية ومالبث أن عاود سيره في الطرقات الفارغة مزعجاً عصافير الصباح التي كانت قد شرعت في زقزقتها الأولى.
أطفأ السائق أنوار الداخل فبانت مباني المدينة وأرصفتها بشكل أوضح عبر الزجاج. كان الناس نياماً. فالفجر يطلق أنفاسه الأولى والمسافرون عادوا إلى النوم بعد أن انتزعهم موعد انطلاق الباص من فراشهم متجهمي السحنات، والسائق يحترم راحة المسافرين فيقرر عدم إشعال المذياع أو إطلاق المسجلة، مفضلاً عن ذلك إشعال سيجارته الأولى لهذا اليوم أما معاونه فكان يسعل ثمَّ يبصق ثمَّ يسعل من جديد ليبصق من جديد. كان الباص يهدر والمسافر الذي تكوَّمَ في مقعده، خلفي مباشرةً، يصدر شخيراً عالياً ومديداً دون توقف.
أما أنا فلم أنم، ولم تذبل عيني ولم أشعل السيجارة الأولى بعد، رغم أنني لم أنم هذه الليلة بل بتُّ سهران، انتظر الساعة الخامسة والربع لأرحل أخيراً عن هذه المدينة، تاركاً مبانيها ونوافذها ومداخل حاراتها وطرقاتها المسفلتة إلى الأبد.
لن أعود إليها، أقسم أنني لن أعود إليها، قلت ذلك في نفسي حين خرج الباص من المدينة فاستقبلته أطراف الحقول مسرعة إليه فارتحت أخيراً لأنني تركت المدينة إلى الأبد.
في تلك الليلة المقمرة وعندما كنا نسير على الطرقات الترابية على مهل ونتحادث، سألني عن يدي ماذا قال الطبيب ؟ قلت له : شلل تام في أصابع اليد اليسرى. نعم، لقد انكمشت أصابعي وبقيت منكمشة إلى الأبد. نهاية حزينة ليد مقاتل. أنا أعترف بذلك. طلق ناري أخترق ظاهر الكف قريباً من الرسغ. أجروا لي عمليتين جراحيتين، ثمَّ أرسلوني إلى برلين لإنقاذ يدي، عدت من هناك بعد شهرين بأذى أقل. أصبحت أحركها. أما أصابعي فمستحيل. أصبح وضعها وكأنني أمسك برتقالة ثمَّ نزعت البرتقالة وبقيت اليد ممسكة فراغاً بحجمها.
قال لي وهو يلتقط عسلوجاً من الأرض ويهم بتقطيعه إلى أجزاء : انظر أيها البطل. الا يكفيك خمس سنوات من القتال ؟. لماذا لاترحل إلى المدينة فنحن بحاجة إليك هناك.
غاص قلبي. أطرقت صامتاً ونحن نسير على الدرب الترابي. ليلة تموزية جميلة، والقمر بدر ينير الوديان والهضاب والسهول إلى ما وراء الخط الساخن. صفير الجنادب. أصوات تحرك فئران الحقول بين الحشائش وشجيرات العوسج المتيبسة. حفيف الرياح الهادئة في الاذن. أصوات طلق ناري متفرق من بعيد. كل ذلك اختلط في شعوري فأحسست بأنني سأنفصل مرة أخرى عن هذا العالم. سأقتلع منه.
قلت له : القول الأخير لكم ولكنني أرجوكم ألا تفكروا في هذا الأمر. إنني أقاتل منذ خمس سنوات. اصابة بسيطة كهذه لا يجب أن تبعدني عن حياتي التي اعتدتها. اجعلوني مدرباً على الأقل. عدنا إلى المهاجع الأرضية. تركني لأستلقي. قال : غداً سنبت في الأمر.
استيقظ المسافر الذي كان تكوم في مقعده وراح يشد جسده ويطقطق عظامه. أطلق شتيمة نابيةً بحق السفر، ثمَّ راح يعبث في كيسه. أخرج قطعة خبز وجبن وخيارة وشرع يأكل. سمعت أسنانه تطحن الخيارة بصوت يطغى على هدير الباص ولما انتهى مسح شاربيه بباطن يده ثمَّ تجشأ مرتين وحمد الله ثمَّ عاد وتكوم وسرعان ما راح يشخر.
كان قرص الشمس قد انبثقَ فجأةً من خلف منخفض أرضي وراح يشع باتجاهي. أحسست بعداء نحوه كما المدينة. خبأتُ وجهي وأغمضتُ عيني. كأنَّ الشمس كشفت هروبي، فضحتني. كنت أخجل من نفسي.
جاء في التقرير ما يلي :
<< أننا نقدر عالياً نضال الرفيق ن.ع. المكنى بـ(البطل) وكل ما قام به خلال السنوات الخمس الماضية سواء في تنظيم المجموعة التي يقودها أم في قيادته لها أثناء المعارك العنيفة التي خاضها ضد العدو المحتل والبالغ عددها أكثر من سبعين معركة. لقد منح ن.ع. أكثر من وسام وكان أسمى الأوسمة، وسام البطل الذي نعتز بأنَّ حامله هو رفيقنا العزيز. إننا على ثقة أنَّ البطل سينجح أيضاً في مهامه الجديدة التي أوكلناه إياها ألا وهي المشاركة في العمل السياسي والتنظيمي في المؤخرة...>>
ارتعشت. سمعت معاون السائق يسعل ثمَّ يبصق. مسحت عيني بيدي اليمنى وقد أحسست بحرارة تنبثق من وجهي. كان السائق يشعل سيجارته الثانية أما أنا فلم أشعل الأولى بعد، تكفيني رائحة النفط التي تنفذ إلى الداخل باستمرار. لم أكن أحمل حقيبة بل محفظة صغيرة وضعت فيها فرشاة أسناني وبعض الأوراق ومذكرة العام ذاته. ماذا كان علي أن أحمل من القاعدة إلى المدينة ؟.
نزلت من الشاحنة العسكرية التابعة للسوريين في وسط مدينة (ب) ثمَّ اتجهت إلى مقهى <<البير>> في هذا المقهى اعتدت شرب فنجاني الأول من قهوة <<الاكسبريس>>. أنا أحب احتساء هذه القهوة مرة في اليوم إن كنت في مهمة ما في المدينة . شربت قهوتي ودخنت بعض السجائر وأنا أستمع إلى أحاديث الناس عن جريمة وقعت ليلة أمس في الضواحي. وضعت خمس ليرات ثمَّ خرجت أتمشى باتجاه كراج دمشق. كانت الشوارع ملأى بالمسلحين والسيارات العسكرية، وكان الباعة يجلسون أمام حوانيتهم وهم يحتضنون الكلاشنكات.
في أحد الشوارع استوقفوني وطلبوا هوِّيتي. تأكدت أنهم من تنظيم صديق فأخبرتهم من أنا. عرفوني فوراً. أحدهم قبلني. سألوني عما إذا كنت أحتاج إلى مساعدة. عرضوا علي إيصالي إلى أي جهة أريد. رفضت. سرت من جديد أتفرج على الفترينات. وجدت الحل. ابتعت بنطالاً وقميصاً وحذاء، فخرجت من الحانوت مدنياً بحتاً.
لم أمر على مكتبنا في مدينة (ب) بل اتجهت فوراً إلى الكراج واستقليت أول سيارة إلى دمشق. ارتفع قرص الشمس إلى الأعلى فغمرت أشعتها الباص وراحت تُسمع حركة المسافرين وهم يستيقظون ويتثاءبون ويتمطؤون. استيقظ أيضاً الرجل الذي تكوَّم في مقعده خلفي. معظم المسافرين أشعلوا سجائرهم وكأنَّ ذلك إيذانا ببدء الحياة. مدَّ السائق يده إلى المسجلة يدس في شقها شريط كاسيت لأم كلثوم (اذكريني). كنت قد نسيت منذ سنوات طويلة أنَّ لأم كلثوم أغنية تحمل هذا الاسم. جاء الصوت مرتجفاً وباكياً. اختلط حزن الأغنية بفرح الصباح النضر : اذكريني كلما الفجر بدا...
رحت أستمع إلى الأغنية وكأنها تخصني وحدي. كيف لا وقد كان المسافرون جميعهم يثرثرون دون توقف. أحدهم قال إنه خائف من بيروت. فسأله الآخر : ولماذا ترحل إلى هناك إذاً ؟ فأجاب أنا ذاهب للبحث عن ولدي، إنه يدرس في جامعة بيروت. انقطعت عنا أخباره منذ مدة. تنهدت امرأة في الخمسين وقالت : يا لطيف !.
اذكريني كلما الطير شدا...
أحسست بغصة في صدري. كيف ستذكرينني يا ترى ؟. متى ؟ وهل ستذكرينني فعلاً ؟ ولكني الآن أذكرها وأذكر ملامحها الرقيقة. هنا في الباص بين هديره وصوت أم كلثوم وثرثرات الركاب وسعال المعاون. ولكن أين عهدي على نفسي أن أنساها ؟ لماذا عادت الآن، أبسبب الأغنية ؟ محوتها من ذهني ورحت أشغل نفسي بشيء آخر. أشعلت سيجارة. تسليت بإطفاء عود الثقاب في آخر لحظة. راقبت السائق وهو يتمايل مع أنغام الأغنية. المعاون وهو يغفو ثمَّ يستيقظ ليسعل. راقبت الحقول الخضراء والجواميس التي تقضم العشب بلذة. أحصيت ما بقي من نقودي. فعلت كل ذلك لكن الغصة بقيت ساكنة في صدري.
كان قد مضى على وجودي في دمشق شهراً كاملاً. استأجرتُ غرفة. اشتريتُ شراشف جديدة وغطاء للطاولة. واشتريت أيضاً جهاز تلفزيون أبيض وأسود مستعملاً. كنت أتناول طعام الغداء في المطعم ( الصحي) والعشاء في البيت، أما القهوة فكنت أشربها في المكتب صباحاً وفي مقهى (النجمة) في المساء. كل شيء ممل. المكتب والمطعم والمقهى والبيت. في بعض الأحيان كنت أشعر بالاختناق، خصوصاً عندما تبدأ الشمس بالغروب. حينها أشعر كأنني برئة واحدة وأنني ألهث. أفتح ياقة القميص ويصيبني صداع. أعتذر من أصدقاء المقهى وأغادر أمشي بوجه أحمر ضرَّجه الدم الصاعد بنزق إلى الرأس. أخرج نصف ليرة وأبحث عن هاتف للعموم. أضيِّع ساعة وعندما أجد الهاتف أفقد الرغبة في الاتصال بأحد. أعود إلى غرفتي. أصعد المئة وعشر درجات. أستلقي على سريري وأدخن السجائر المهربة وعندما يطرق بابي أحد تجتاحني سعادة ما ثمَّ ما تلبث أن تغادرني لتحتلني الكآبة والنزق والصمت. كان علي أن أسرد ولكنني لم أكن أسرد. يضجرون من بطولاتي ويرحلون. أي بطل أنا في هذه المدينة. بطل العمل السياسي والتنظيمي !!. هذا الشيء مدعاة للسخرية خصوصاً أنَّك تفقد القدرة على الكلام حين يطلبون ذلك منك. أجلس في أحد المهرجانات الخطابية ويدي اليسرى تقبض على برتقالة وهمية. أشعر ببعض الأشخاص ينظرون إلي بحسد وإعجاب. ما قمت به عظيم، ما أقوم به تافه. بعد الخطب والكلمات يضربون حولي طوقاً أثناء الخروج. كل الناس يريدون تحيتي وأنا أريد الهرب مصاباً بداء الكآبة، أدخن بشراهة، تنتظرني ساعات أرق طويلة في البيت وفي بعض الأحيان أحطم كأساً على الجدار.
كل ذلك كان يحصل عندما التقيت بنبيل.
احتضنني وجعل يقبلني. قبلته أنا أيضاً وأنا أشد على يده مصافحاً. أين أنت يا رجل ؟ قرأت عنك الكثير. أنت الآن بطل حقيقي. يقولون أنك قهرت جيش لحد، ماذا : ألم تقهرك امرأة ما؟ ثمَّ ضحكنا وانطلقنا إلى مكان ما لنأخذ كأساً أو إثنين من الخمر.
قعدنا وشربنا الكثير. تحدث نبيل الكثير أيضاً. إنه مرح في طبعه، والدنيا لا تستطيع تبديل شخص مثل نبيل. إنه كاتب وثوري وتاجر في آن معاً. يقول النكات كما يتنفس. يضحك لأتفه تعليق. يقول نظريات مهمة ويناقش النساء حتى الصباح، وبعد أن يغادرهنَّ يشعر بالأسف لأنهناقشهنَّ فقط. تذاكرنا معاً أيام زمان وتداولنا مواضيع هذا الزمان. لا ينسى شيئاً. يتذكر كل شيء والأهم من ذلك أنَّه لا ينسى أن يرفه عن أصدقائه.
المهم. شرب وضحك وأطلق النكات وحدثني عن نظريته وعن تجارته. خطر في باله أن يسألني عما أفعل الآن.
بماذا أجيبه ؟. أحمر وجهي وزفرت وأصابني الغم فجأة. وبما أنَّ نبيل هو نبيل فقد قلت له كل شيء. أخبرته عن إصابة يدي والشلل والعمليات الجراحية والرحلة إلى برلين. ثمَّ أخبرته عن قرار التنظيم في إبعادي عن العمل العسكري حمايةً لي، ولأنني أصبحت عاجزاً. حدثته عن حياتي في مكتب المدينة وعن الكآبة التي تصيبني كل مساء عند الغروب لأنني أبتعد عن الناس وهم يبتعدون عني. أخبرته أنني أسوأ رجل سياسة في هذه المدينة. لم أبقِ شيئاً لم أقله ولم أخفِ عنه شيئاً. قلت له حتى أنني أحطم الكؤوس على الجدران وأمارس أسوأ العادات. فوجئ نبيل بكل هذا. كان يستمع وهو صامت، وصمت بدوري وقد عاودني القلق. أطفأ السائق المسجلة عندما كانت أم كلثوم تعيد مقطع اذكريني كلما الليل سجى… ثمَّ خرج الباص عن الاسفلت وأوقفه. صمت المسافرون قبل أن تنتهي الحكاية وراحوا يستفسرون عن سبب التوقف. خرج السائق من خلف المقود بصعوبة ثمَّ ترجل مع المعاون بينما نهض المسافرون ليراقبوهما عبر زجاج النوافذ. أعلنوا جميعاً وبشكل متتابع أنَّ دولاب الباص قد (برشم). هرع بعض المسافرين لتقديم المساعدة إلى السائق والمعاون بينما سار آخرون بعيداً كي يتبولوا. سمعت السائق يشتم أم الدولاب. نهض المسافر الذي كان متكوماً خلفي. استفسر عن الموضوع من امرأة صبية متحجبة فلم تجبه شيئاً. سألني فرفعت له كتفي وأنا أقول له : الدولاب. هدأ إذ كان يحسب أنَّ حاجزاً قد أوقفنا. أخرج خيارة وراح يقضمها بصوت عالٍ وشهي. أصدر أحد المتبولين صوتاً بشعاً فاحمر وجه المرأة المتحجبة. تكومت في مقعدي وأغمضت عيني طلباً للنوم.
في اليوم التالي هتف إلي بالمكتب. قال إنني لم أعجبه في الأمس. قلت له إنني لم أعد أعجب أحداً، فقال بأنه سيمر علي مساءً في البيت لنتحدث أكثر في الموضوع. أغلقت الخط وأنا غير متحمس للموضوع.
وفعلاً جاء. كنت نائماً فأيقظني. أشرعنا النافذة طلباً للهواء النقي فقد كان جو الغرفة كريهاً. سألني منذ متى وأنا نائم ؟ فاستنتج أنني نمت خمس ساعات. اغتسلت وعملت كوبين من القهوة شربناهما صامتين. أراد أن يخلق جواً من المرح إلا أنني قمعته بتجهمي. بعد قليل كسر الصمت وقال :
- انهض واحلق ذقنك وارتدِ ثيابك.
- ماذا هناك ؟.
- سوف أعرفك بفتاة.
قلت له لا أريد. عرفت الكثيرات خلال مكوثي في المدينة إنهنَّ تافهات ثمَّ إنني أخاف أنَّ أخذلك. أصرَّ نبيل، قال إنَّه سيعرفني بنوع جديد ومتميز من النساء. هذا النوع الذي سيعيد علاقتي بالحياة على أسس جديدة هكذا قال حرفياً ولذلك نهضت وفعلت ما طلبه وقد زال عني نصف الكآبة. مشينا صامتين باتجاه شارع العابد حيث اشترينا كيلو غراماً كاملاً من المشاوي ولتر وسكي مشكوك في مصدره ثمَّ استقلينا سيارة باتجاه ركن الدين. وجدت الأمر مسلياً بالنسبة لي فابتسمت لإحدى نكات نبيل. منذ زمن بعيد لم أذهب مع أحد لبيت فتاة. ربما خطط الرجل لأمسية جميلة تجعلني أنسى كآبتي والغصة في الصدر والشعور بالوحدة. ليلة واحدة على الأقل. ترجلنا ثمَّ صرفنا السيارة أمام بيت من طابقين له حديقة منخفضة. كان الشارع هادئاً ومعتماً. فتح باباً حديدياً ثمَّ قادني بواسطة درج إلى الأسفل. طرق نبيل باباًَ من الحديد والزجاج وأنا أتطَّلع إلى أحواض الزرع التي تحوي أي شيء ماعدا المزروعات. فتحت الباب امرأة في الخامسة والثلاثين. هللت لمجيئنا. أدخلتنا وهي ترحب بنا وكأنَّ أسعد شيء تتوقعه قد حدث. امرأة لطيفة تجدها في الأماكن الراقية. مثقفة بدلالة لكنتها ومئات الكتب المصفوفة على الجدران الأربعة.
- السيدة هدى
- السيد ن.ع.
شدت على يدي بطريقة لطيفة جداً. إنها تعرفني وتعلم بمجيئي. اعتذرت بسبب بساطة بيتها والأساس. جلست أنظر حولي وأنا أخفي يدي المشلولة. لاحظت أنها وبذكاء تراقب يدي. فتح باب المطبخ ودخلت امرأة ثانية، امرأة في الثلاثين، ناعمة، رأسها يصل إلى كتفي. ذات شعر مسبل على كتفيها. امرأة عادية نحيلة سمراء تحسب أنها بلا عظام لليونة التي تتحرك بها. امرأة بجمال غريب لأنه عادي. لطيفة ومثقفة هي أيضاً. حاولت أن لا تزيح عينيها عني. قدَّمها باسم ليلى وقدمني باسمي. صافحتني بيدها اللاعظمية. أثناء ذلك أحسست أنَّ لها أعمق عينين صادفتهما في حياتي.
أعلنت المرأتان أنَّ هذه الليلة ستكون أعظم ليلة في حياتهما. تسلقت ليلى المكتبة والتقطت من رفها العلوي زجاجتي نبيذ فرنسي معتَّق. نظرت إلي أثناء نزولها. خرجتا وبدأتا بتحضير السفرة. كانت ليلى ترمقني في الرواح و المجيء. أحسست بالحرج بالبداية ثمَّ اعتدتُ على نظراتها. الليلة هي ليلة البطل فشربنا النخب الأول.
ليلى تملأ لي كأسي، تملأ لي صحني، تشعل لي سيجارتي، ترمق وجهي، توجه الحديث نحوي وتحكي لي النكات. إن لم أضحك تحسب أنني لم أفهم النكتة، فتعيدها من أجلي. أعلنت أنها ستضع في المسجلة أحب شريط إليها.. أيضاً من أجلي. سألتني إن كنت أتذكر نكتة. سردت لهم نكتة عن رجل حمصي، ضحكت ليلى حتى غشيت من الضحك. كانت النكتة سخيفة. بدأت تسابق الريح في إطلاق النكات حول <<الحماصنة>>. أخيراً طلبت مني أن نرقص على أنغام (شيرلي باسّيه). لم أكن محرجاً لأنني كنت قد شربت بما فيه الكفاية. سألتني وهي تحافظ على مسافة بين جسدينا إن كنت أعرف الانكليزية. قلت لها نعم ومع ذلك ظلت تشرح لي معاني أغنية شيرلي.
أحبك، أكرهك، أحبك، أكرهك، أغنية جميلة والمرأة التي بين يدي جعلتها أجمل. كانت تتمايل مع الأغنية وشعرها يتمايل معها والغرفة تتمايل أمام عيني.
انتهت الأغنية فعدنا ونحن نضحك. ضحك نبيل بسعادة لقهقهاتي. لقد نجح، وكعادته يطرب لنجاحاته. صرخ بأعلى صوته طالباً زجاجة الويسكي. حان دورها. بدَّلت هدى الكؤوس وأحضرت الثلج وبدأنا بشرب السائل المزيَّف. ثمَّ طلبت ليلى أن أحكي لهم عن بطولاتي. لم أشعر بشيء إلا وأنا أحكي لهم عن التسلل والكمائن والضرب والتراجعات وتصفيات الخونة وإنقاذ الجرحى وتفجير مباني القيادات وكشف الجواسيس. حكيت لهم أشياء كثيرة. كنت أحكي لليلى، وليلى كلها آذان صاغية.كانت تعابير وجهها تأخذ شكل ما كنت أسرده. وعندما حكيت لها كيف أصبت في المعركة الأخيرة وكيف انسحبت من المعركة زحفاً، بكت.
في تلك اللحظة أحسست أنَّ علي أن أنهض وأعانقها ولكنها هي التي فعلت.
وقفت بكل هدوء ثمَّ اقتربت مني وعانقتني.
اصلحت جلستي على مقعدي. كان جاري يتابع أكل الخيار. بدأ الركاب في العودة إلى الباص وهم يضحكون. قال زوج المرأة المتحجبة أنهم أنهوا تبديل الدولاب وسينطلق الباص فوراً. صرخ أحدهم أنَّ الباص سيسير دون بدل. ردَّ آخر : خذ حسبك الله وامش. ردد الجميع : لا إله إلا الله. صعد السائق ومعاونه إلى الباص وأخذا مكانيهما. وضع السائق شريطاً جديداً. كانت أغنية الآهات لأم كلثوم أيضاً. انطلق الباص وانطلقت الاغنية : آه من لقياك في أول يوم... تذكرت نهاية أول يوم. كنت في غرفتي وحيداً بعد أن ودَّعت هدى وليلى ثمَّ ودعت نبيل الذي سيسافر صباحاً إلى أبو ظبي.
كنت جالساً في غرفتي أدخن السجائر وأستعيد وقائع الليلة. ليلى هذه تركت انطباعاً هائلاً في نفسي. تذكرت نكاتها وحركاتها فابتسمت. تنهدت ثمَّ زفرت ثمَّ سألت نفسي إن كنت قد وقعتُ في الحب.
كنا قد تواعدنا للذهاب إلى السينما. انتظرت بفارغ الصبر انتهاء عمل المكتب. وفي الساعة السادسة كنت أنتظر أمام سينما الكندي وفي جيبي ثلاث بطاقات، وما إن وصلتا حتى دلفنا إلى الداخل وجلسنا نتحدث ونضحك، وما إن أطفِئت الأنوار حتى لم يعد يسترع انتباهي شيء سوى التي إلى جانبي. حتى أننا وقـَّعنا في العتمة بطريقة خرقاء على بطاقات الدخول وتبادلناها.
ما إن انتهى الفيلم حتى تنفسنا الصعداء وانطلقنا باتجاه ركن الدين. وهكذا كنا نفعل كل يوم، كنا نمضي ساعتين أو ثلاث في الخارج ثمَّ نذهب إلى البيت، وهناك كانتا تحضران السفرة ثمَّ نقعد لنأكل ونشرب، لنستمع إلى الموسيقى ونرقص على أنغام شيرلي باسِّيه. كنا في بعض الأحيان نغني أغنية معاً بصوت هادئ بعد أن أكون قد تعلمت بعض كلماتها. وما إن ينتصف الليل حتى تذهب هدى إلى النوم، فأمكث ساعة أخرى مع ليلى نتحدث خلالها عن لبنان ونبيل. عن الأفلام التي كنا قد شاهدناها وعن أغاني باري وايت وأوليفيا نويتن التي كنا نستمع إليها في تلك الساعة. وعندما تدق الساعة الواحدة، كنت أنهض فألمس خدها بخدي ثمَّ أقبل يدها كجنتلمان وأتمنى لها ليلة سعيدة.
كنت أعود إلى البيت مشياً على الأقدام، وفي بعض الأحيان كنت أركض فرحاً. لا يهمني شيء ولا حتى أن يتطلع حارس ليلي إلي بدهشة. وما إن ادلف إلى غرفتي حتى أستلقي على سريري وأنا أحلم أنها جالسة على مقعدي إلى جانب النافذة، فصوتها يرن في أذني، وصورتها ثابتة في عيني، ورائحة عطرها ساكنة في رأسي.
أما في الصباح فإنني كنت أستيقظ نشطاً. أركض إلى الباص. أصعد الدرجات إلى المكتب قفزاً. أحيي الزملاء فرداً فرداً. أشرب القهوة بلذة عارمة وأنا أدخن السيجارة الأولى. حتى أنني كتبت خطاباً حماسياً وألقيته مرة في مناسبة وطنية فوقف الحضور وهم يصفقون ويهتفون.
ياإلهي.. ياإلهي.. ماذا جرى لي ؟.
كانت أم كلثوم تتابع أغنية الآهات بصوت مجروح :
أشرب بايدي كاس يرويني.. اشرب بإيديك كاس يكويني..
رفعت جزعي ومسحت وجهي بيدي. كانت الغصة إياها تثقل على صدري. أخذت نفساً عميقاً دون فائدة. كانت يدي القابضة على اللاشيء مركونة على فخذي ترعبني.
كان الوجوم مسيطراً على الركاب، رغم صوت أم كلثوم، فقد تلبدت السماء بالغيوم، وأصبحت الأراضي اللبنانية مرئية، وكانت الشاحنات العسكرية والحواجز تغطي الأرض والأفق.
أبقيت عيني مفتوحتين وأسندت رأسي إلى زجاج النافذة.
كنت قد قررت أن أقول لهاشعوري فيها، أن أقول لها ما أشعر نحوها. قررت أن أبثها عواطفي. أن أقول لها أنَّ ذلك الشيء الذي أشعر به يضغط على كياني كله والذي أنقذني من كآبتي ونزقي وموتي البطيء.
كنت قد قررت أن أقول لها في تلك الليلة إنني أحبها.
كنا قد أكلنا وشربنا، رقصنا وغنينا، وكانت هدى قد ذهبت لتستلقي. كانت ليلى جالسة إلى جواري، قريبة مني، كنا نتحدث في أمر نسيته تماماً، لأنَّ ماحدث بعد ذلك هو الذي لن أنساه في حياتي كلها.
أمسكت يدها في يدي فأبقتها على حضني. قرَّبت وجهي من وجهها فلم تبتعد. عندها، قبلت شفتيها. وما إن ابتعدت عنها حتى همست بصوتٍ صادر من عمق أعماقي وبكلمات لم أقل في حياتي كلها أوضح منها : ليلى، أنا أحبك.
رفعت عيني إليها لأرى ردها. كنت أنتظر أن تفتح ذلك الثغر الذي قبلته قبل هنيهة وأن تقول ما أريد أن تقول فعلاً. ولكنها لم تقل شيئاً. تلألأت عيناها السوداوان قليلاً ثمَّ نبعت دمعتان ارتجفتا قليلاً ثمَّ تدحرجتا على الخدين، ثمَّ أخفت وجهها بيديها وراحت تبكي.
ياإلهي.. ماذا فعلت. ماذا حصل.. احتضنتها. استسلمت لي ولكنها لم تتوقف عن البكاء. كانت تبكي بصوت مكتوم وينتفض جسدها بين يدي. كانت تبكي وتنتفض وتشرق أنفها دون أن تستجيب لتوسلاتي.
ماذا حصل ؟ سألتها عشر مرات. مسحت لها دموعها بمنديل. قبلت يديها ثمَّ قبلت عينيها الباكيتين. تذوقت السائل الدافئ المالح. ماذا حصل ؟.. كان علي أن أموت لا أن أجعل ليلى تبكي.
هدأت قليلاً وابتعدت عن كتفي. حاولت الابتسام ولكن دموعها منعتها. كانت محرجة وحزينة، تشعر بذنب ما لا أعرف كنهه. قالت لي بكلمات متقطعة دون أن تنظر في عيني :
- انظر أرجوك. أنت بطل، ولزاماً علي أن أعتني بك. أن أحوطك بالعناية. أنت بطل.. والأبطال لا تقابلهم كلَّ يوم، ولا تستطيع التحدث معهم بسهولة ولمسهم. أنت بطل عزيز، لكنك فهمتني خطأ.
تأكدت من صحة سماعي ما قالته. لقد فهمتها خطأ. كيف ذلك ؟ قلت لها مرة أخرى إنني أحبها. استدارت إلى الطرف الآخر ومسحت عينيها من جديد سمعتها تقول وهي تنهض :
- أنت صديق عزيز ولكنني أحب شخصاً آخر. أرجوك افهمني، أنا المخطئة، الذنب ذنبي.
خرجت إلى المطبخ وتركتني أنهار على الكنبة. كان عقلي ساكناً متلبداً. لا يريد أن يفهم، لا يريد أن يعي، لا يريد أن يقرر ماذا علي أن أفعل الآن، أن أفعل غداً. ولكن التلبد انحسر فجأة فأحسست بالدم يصعد إلى رأسي وشعرت بحاجة للبكاء. كم أحسد ليلى لأنها تبكي بسهولة هكذا. نهضت، ذهبت إليها. كانت واقفة أمام الغاز تصنع القهوة وتبكي. أمسكت بها ماذا حدث ؟ لماذا فعلت بي هذا ؟ إنني أحبك، أرجوكِ افهميني. لقد بنيتني من جديد فلماذا تحطمينني ؟ قلت لها أشياء كثيرة أخرى. كانت تبكي وتقول : إنها تحب شخصاً آخر. نبيل هو الذي طلب منها أن تهتم بي لأنني كنت بحاجة إلى ذلك.
تركتها. دلفت إلى الغرفة. حملت سترتي وعلبة سجائري وخرجت إلى الحديقة. صعدت الدرجات لا أعرف كيف. خرجت إلى الشارع. سرت في العتمة وأن أسمع صوتها وهي تبحث عني. أخذت سيارة أجرة أو ربما لا، نسيت كيف وصلت إلى بيتي وكيف بحثت عن فرشاة أسناني وكيف انتظرت حلول الساعة الخامسة والربع، وكيف وصلت إلى محطة الباصات.
كان الباص يتابع سيره مجتازاً حاجزاً بعد الآخر. كان الجنود والمسلحون يصعدون إلى الباص يدققون في البطاقات ويتفرسون في الوجوه. عرفني بعضهم فرحب بي. ولما وصلنا إلى مدينة (ب) نزلت من الباص قرب مقهى <<ألبير>> حيث تناولت فنجاناً من قهوة <<الإكسبريس>> وبعد ذلك سرت باتجاه دوار طريق الجنوب حيث التقطتني شاحنة عسكرية تابعة للسوريين فأوصلتني إلى المعسكر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق